والشيخ رحمه الله نوع هذه الآيات كما هو في كلامه الذي بعد هذا، أو بعضاً منها، كأنه يريد أن يذكر هذه الآيات؛ لأنه لو اكتفى بذكر الآيات التي فيها زيادة عمل من أعمال الإيمان لقال
المرجئة وأولوا هذا بأن المقصود زيادة ما يؤمن به، فلذلك يقول: وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها -أي: آية آل عمران وآية الفتح-: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ أي: يريدون أن يقولوا: إن الإيمان الذي في القلب لم يزد، وإنما زاد المؤمن به، وذلك كثرت الآيات كان الواحد يؤمن بمائة آية، والآن يؤمن بمائة وعشرين آية، لكن الإيمان واحد، أيضاً كان يؤمن بثلاثين شعبة من شعب الإيمان، الآن يؤمن بأربعين شعبة وهكذا، وهذا تأويل
المرجئة، إذ يقولون: الإيمان لم يزد في القلب، وإنما الإيمان هو الإيمان، والذي زاد هو ما يؤمن به، فنقول: هذا من العجب، والشيخ قد أجاب بإجابة واضحة وسهلة، فنرجع إلى هذا الكلام من الناحية العقلية، فيقول الشيخ: (هل في قول الناس: ((
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173] زيادة مشروع) لأن الآية قالت: ((
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173]؟ فالناس الأولى المراد بها: المخبر، سواء كان واحداً، أو جنس المخبرين الذين أخبروهم بذلك، وينطبق عليهم أنهم منافقون، وقالوا ذلك بغرض الفت في عضدهم، وإضعاف همتهم وعزيمتهم، فطائفة من المرجفين قالت للمؤمنين: إن الناس -قريش وغطفان و
اليهود- قد جمعوا لكم فاخشوهم، وهذا هو ما يريده المنافقون دائماً والمرجفون؛ فيريدون من الشباب المؤمن، أو من أولياء الله أن يخشوا وأن يخافوا أعداء الله، والنتيجة: فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: يكفينا أن يكون الله تبارك وتعالى هو معنا وناصرنا، ومهما حشد الخلق، ومهما جمع الكفار، ومهما تآلب الأعداء، ومهما تكالبوا وتآمروا، ومهما خططوا وكادوا ومكروا، فنحن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، ويكفينا ذلك كما أمرهم الله: ((
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[الأنفال:64] أي وهو أيضاً حسب من اتبعك من المؤمنين كما قال: ((
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:36] بلى تبارك وتعالى، فهو كاف عبده وعباده المؤمنين الذين وعدهم وتأذن لهم بالنصر: ((
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))[الحج:40]، وإن أبطأ أو تأخر، فهو في النهاية لا بد منه: ((
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ))[غافر:51]، حتى لا يظن ظان أنه إنما يطمع في نصر الله يوم القيامة فقط، فالله تعالى في الحياة الدنيا ينصر المؤمنين بأنواع من النصر، وقد يكون منها أن يستشهدوا، فيخلد الله ذكرهم ويهلك عدوهم، وهذا في الدنيا يراه الناس جميعاً، ويغبطهم عليه من يغبطهم، وأما يوم القيامة فالأمر فيه جلي ولا ريب في ذلك، فيقول الشيخ: هل في هذا القول مشروع؟ هل نزل أمر تعبد به الناس؟ لقد خاطب منافقون مرجفون المؤمنين وقالوا لهم: إن هذه الجموع الكافرة قد احتشدت لكم فاخشوهم، فماذا أنزل؟ وماذا شرع من الدين جديداً حتى يقال: إنه زيادة ما يؤمن به؟ هذا واضح أن الأمر ليس كذلك، وكذلك (هل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع)؟ يعني: أن الله تبارك وتعالى لما قال: ((
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ))[الفتح:4] وعلل ذلك: ((
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4]، فما الذي شرع جديداً؟ هل شرع أمراً من أمور الدين؟ هل أنزل فريضة أو نهاهم عن شيء؟ لا، وإنما أنزل السكينة ليزدادوا إيماناً، فهذا فضل منه تبارك وتعالى، وتكريم ومن منَّ عليهم به، يقول رحمه الله: (وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من
الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً)؛ لحاجتهم في ذلك الموقف الرهيب إلى هذا، وأنعم الله تعالى عليهم به؛ لأنهم لما خرجوا من
المدينة خرجوا وهم واثقون في دخول
مكة بناءً على رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن رؤيا الأنبياء حق، فما كان عندهم شك أبداً في أنه الفتح، كما ذكروا ذلك في أكثر من حديث صحيح فيما ورد في السير من أخبار
الحديبية ، لكن لما عادوا كبر وعظم ذلك في قلوبهم، وترددوا في أن يحلوا الإحرام، فكان موقفاً في غاية القسوة عليهم، فطمأنهم الله تبارك وتعالى، وأنزل السكينة في قلوبهم، وبشرهم فقال: ((
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27] فالمؤمن لا يستعجل نصر الله، لكن يثق في أن وعد الله آت، ولهذا قال
أبو بكر رضي الله تعالى عنه في محادثته لـ
عمر ومن معه من المؤمنين: [
أفي عامنا هذا]؟ فلم يدل دليل على ذلك، ولم يحدد ذلك، فكان من فضل الله تبارك وتعالى عليهم أن أنزلت عليهم هذه السورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نزولها عليه خير مما طلعت عليه الشمس، ولو أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدنيا بأكملها، لما كان يعادل عندهم نزول هذه الآيات والبشارة بالفتح المبين: ((
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، وكان لله تبارك وتعالى في ذلك حكمة عظيمة؛ لأن العرب كانت تتلون في الحديث، أي: تنتظر وتتمهل وتتأمل دخول قريش في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا: هم أتباع البيت، هم أهل البيت، وهم أهل الدين ونحن لهم تبع، فإن آمنوا آمنا، وإن حاربوه فهم أهله وذووه، وهم أعرف به منا، فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً عقدت هذه الهدنة، أما المؤمنون فزادتهم إيماناً مع إيمانهم، وزاد انتظارهم، وأخذوا يعدون العدة، ونشروا الدين، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرسل والبعوث في
جزيرة العرب ، إنه إعداد كامل وتهيئة كاملة في الجبهة الداخلية، أما العدو الخارجي فقد كفوا أمره بهذه الهدنة، وأما قريش وأهل الجاهلية في كل زمان ومكان، فإن الهدنة تعني: عود إلى حياة اللهو والدنيا والاشتغال بما يهمهم في أنفسهم، ولذلك عادوا إلى تجارتهم، وقد ذهب
أبو سفيان زعيم قريش وشيخها إلى
بلاد الشام وترك أمر القتال ،وما يتعلق بالقضاء على هذا الدين الجديد، وعاد تاجراً كما هو عمله الأول، وذهب هنا وهناك، فقبض عليه وأتي به إلى
هرقل كما في الحديث العظيم الذي يعد من دلائل النبوة، ولذلك لما سئل قال: ونحن الآن في هدنة -وما وجد شيئاً يطعن- ولا ندري ماذا يصنع؟ أي: قد يفي وقد يغدر، فطمأنه
هرقل ، فقال: والأنبياء لا يغدرون، فكان الغدر من قريش، وفي فترة الانتظار هذه كان الفتح العظيم، فبعد أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل
مكة بألف ومائتين أو بألف وأربعمائة في أصح الروايات، دخل عام الفتح بعشرة الآف مقاتل، ثم لما فتحت
مكة فتحت قلوب العرب ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، فيقول الشيخ: لم ينزل أمر مشروع، وإنما أنزل الله السكينة والطمأنينة على هذه القلوب المتوقدة المتحمسة المشتعلة للجهاد، ولدخول البيت الحرام، ولمنازلة المشركين إن ردوهم عن ذلك؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فكيف تقولون: إنه فيما يؤمن به، أي: فيما يأتي من أحكام أو تشريعات جديدة يؤمن بها. قال: (ويؤيد ذلك قوله تعالى: ((
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167])، أي: أن المنافق متردد مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهو متردد كالشاة العائرة بين الصفين، فإيمانه الظاهري يميل به أحياناً نحو أهل الإيمان، فيرى وكأنه معهم، أو أقرب إليهم، ويأتي عليه حين يكون أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، فالمنافقون أنواع: منهم من -كما ذكر الله تبارك وتعالى- كفروا بعد إيمانهم، كما في آيات التوبة، ومنهم من كفروا بعد إسلامهم، ومنهم من قال: ((
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167] ومنهم من في قلوبهم مرض وهكذا، حتى النفاق درجات ومراتب، وفي هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، فالمنافق إذا نقص إيمانه جداً، أو اضمحل وذهب، فيكون مع الكفار أو أقرب شيء إلى الكفر وأهله، وإذا زاد إيمانه -وكانت زيادته قليلة ومحدودة- كان أقرب إلى المؤمن، ولذلك ذكرنا الله بالمثل الذي ذكره في أول البقرة فقال: ((
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ))[البقرة:19] والآية التي قبلها: ((
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ))[البقرة:17]، فهم ليسو من أهل الظلمات المطلقة، وإنما استوقدوا ناراً، أي: جاءهم النور، وجاءهم الإيمان، وجاءهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما أضاءت ذهبت؛ لأنه لم يثبت في قلوبهم، ولعل هذا نوع منهم، أما الطائفة الأخرى فهي تلك الطائفة الحائرة المترددة، وقد ضرب الله تعالى لها هذا المثل الحسي الواضح المشاهد: عندما يكون الإنسان في حالة الصيب -المطر- من السماء، وفيه ظلمات ورعد وبرق، وفي هذه الحالة المخيفة التي يخاف فيه الإنسان ويخشى من الصواعق، فلا يضيء له إلا البرق، لا نور فيه ولا شمس، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكذلك الإيمان يأتيهم لمحات خاطفة، فإذا خطف الإيمان في قلبه كما يخطف البرق، يرى أن هذا شارع، وهذا طريق، وهذا بيت، وهذه حفرة، لكن لا تنفعه ولا يستضيء بها؛ لأنه من حيرته وتردده واضطراب الإيمان في قلبه سرعان ما تنطفئ، وإذا به يرى ما أمامه من ظلام دامس مطبق، إنها حالة يمكن من رآها وعايشها يتذكر فعلاً كيف يكون حال هؤلاء المنافقين؟ ولو اطمأنت قلوبهم بالإيمان، لكانوا كالإنسان الذي يفتح عينيه، ويرى أمامه هذا الضياء، وهذا النور، وهذا الإشراق، إذ إن طريق الهدى واضح، وطريق الكفر والضلال والانحراف واضح جداً، ولا ننسى قصة ذلك الرجل الذي من الله تبارك تعالى عليه بالهداية، فقد كان مغنياً إنجليزياً، يسمونه
كات استيفن ، ثم سمى نفسه بعد الإسلام
يوسف إسلام، وعندما أجريت معه مقابلة سئل: كيف كان شعورك في حال الكفر؟ فقال: كنت كالذي يعيش في ظلام مطبق تام الظلمة، لا أرى فيه شيئاً مطلقاً، ولما أسلمت كنت كالذي فتح عينيه ورأى النور، ورأى الضياء، ورأى الأشياء على حقيقتها، فهذه عبارته أقرب تشبيه حقيقي يقال لمثل هذا الموقف. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.